السودان- حرب وجود، تحالفات تفكيك، ومنهج للخلاص

لا مناص من إيجاد حل جذري لأزمة السودان الطاحنة بعيدًا عن التصورات الضيقة، بل يجب الغوص معمقًا في طبيعة الوضع الراهن، وتصميم جهاز تنفيذي يتناسب مع تعقيداته، مع إدراك الأدوار المحورية التي تلعبها مختلف القوى الفاعلة على الساحة السودانية، من أحلاف وكيانات وجماعات، تلك المنخرطة بكل قوة في هذه الحرب الضروس التي تعصف بالبلاد.
إن الوصف الدقيق لما يحدث في السودان اليوم، بدون أي تضخيم أو تهويل، يوضح أن الشعب السوداني وقواته المسلحة يخوضون معركة مصيرية، حربًا ضروسًا ضد عدوان سافر يهدف إلى تدمير البلاد ومحوها من الوجود، ليس فقط اقتلاع السودانيين من أراضيهم، بل طمس هويتهم التاريخية، وإزالة كل أثر أو رمز أو وثيقة تشير إلى وجود بلد اسمه السودان، بلد له جذور تاريخية وثقافية عريقة، وحاضنات مجتمعية ودينية وحضارية متأصلة.
أركان أربعة
وانطلاقًا من هذه الأهداف الإبادية الواضحة، كان الأمل يراود قادة هذا المخطط الشنيع أن يتم كل شيء بسرعة خاطفة، وأن يكون الخامس عشر من أبريل/ نيسان عام 2023 هو الشرارة التي تبدأ معها النهاية المأساوية لوجود السودان الذي نعرفه على خريطة العالم.
هذا هو -دون أدنى مبالغة أو وهم- المشروع المدبر في نسخته الحالية.. وذلك هو التوصيف الجلي لغاياته الجوهرية ومبادئه المنطلقة.. وتلك هي السمات المميزة للحالة التي تستدعي تصميم جهاز تنفيذي لمجابهتها، والعمل الدؤوب على احتواء آثارها المدمرة على كافة الأصعدة.
ولكن بالرغم من وضوح هذه الحقائق الساطعة، لا يزال بعض الناس أسرى التفكير السطحي، والتصورات القاصرة، وهذا العجز لا يولد إلا غيبوبة مستمرة تعيق اليقظة والانتباه إلى ما يحاك ضد السودان من دسائس ومؤامرات.
اليوم، آثار العدوان الغاشم تغطي كل شبر من أرض الوطن، بينما ما زلنا نذكّر البعض- بعد مرور ما يقارب العام والنصف- بأن خطرًا محدقًا يهدد وجودهم، غير أنهم يستقبلون تحذيراتنا ببرود، تمامًا كما يستقبلون نشرات الأرصاد الجوية التي تتحدث عن موجات الحر أو البرد! صدق الله العظيم: "وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ".
يقول أهل الفكر والتحقيق: إن أسس التذكر ثلاثة: الانتفاع بالعظة، والاستبصار بالعبرة، والظفر بثمرة الفكرة.. فما أكثر العظات والعبر التي مرت بنا! وما أحوجنا اليوم إلى ثمار الفكرة الناضجة، والسديدة، المجردة من شوائب الأنانية! فالأنانية بكل أشكالها هي قيود ثقيلة ما فتئت تهوي بالشعب السوداني في دروب الضياع منذ أمد بعيد.. سواء كانت هذه الأنانية فردية، أو حزبية، أو طائفية، أو قبلية، أو جهوية، أو غير ذلك.
وقبل أن يقدم القادة الكرام على اختيار العناصر التي ستتولى زمام الأمور في البلاد في هذا الظرف الحساس، يجب أن تتضح الرؤية تمامًا، وأن نزيل كل الغشاوات (البصرية والسياسية) لكي نرى بوضوح المكونات الأربعة المتماسكة والمتعاونة للحلف الذي يقود اليوم مشروع تفتيت البلاد.
وفيما يلي، نورد -للتذكير- الكتل التي يتألف منها هذا الحلف، مع الترتيب من الأهم إلى الأقل أهمية:
الكتلة الأولى:
تحالف سياسي دولي، محكم السيطرة على عناصره ومكوناته، تقوده قوى نافذة مثل بريطانيا وأمريكا وفرنسا وإسرائيل، بالإضافة إلى بعض الدول الإقليمية.
في عواصم هذه الدول تم وضع هذا المشروع الخطير منذ سنوات، بانتظار تهيئة الظروف الموضوعية اللازمة لتنفيذه، وقد تضافرت وتكاملت هذه العوامل بدءًا من أواخر العام 2018، مع بداية التحركات التي تولت عناصر هذه الكتلة صناعتها ورعايتها حتى انتهت بإسقاط نظام الإنقاذ.
الكتلة الثانية:
تم استقطاب شخصيات قيادية حكومية مؤثرة في دول الساحل الأفريقي وجنوب السودان وأوغندا وكينيا وإثيوبيا، ليكونوا قوى إسناد سياسي وعسكري إقليمي، وذلك باستخدام وسائل الإغراء المالي الظاهرة والمستترة. كما تم استقطاب قيادات سياسية ودبلوماسية نافذة في المنظمات الإقليمية الأفريقية باستخدام نفس الأدوات المالية، وذلك بغرض توفير الدعم اللازم لمشروع تفكيك الدولة، بدءًا بإضعاف وإنهاك القوات المسلحة.
الكتلة الثالثة:
إن كتل التحالف الخارجي المذكورة أعلاه، قامت بتشكيل تحالف سياسي داخلي من ما يسمى بأحزاب وكيانات "قحت" ثم لاحقًا "تقدم"، بالإضافة إلى بعض الأفراد الذين تربطهم علاقات وثيقة بدول الكتلة الأولى للتحالف الخارجي، والذين اتخذ بعضهم من تلك الدول مقرًا لإقامتهم لعقود، غير أن ولاءهم يظل دائمًا للدولة التي وظفتهم ومنحتهم جنسيتها في حال تعارض المصالح.
ويجب التأكيد هنا على أن من بين الآلاف من حاملي الجنسية المزدوجة رجالًا ونساء شرفاء، سجلهم خالٍ من أي اتهامات بالعمالة أو الخيانة.
الكتلة الرابعة:
وهي الذراع العسكري الداخلي الأهم، الذي أوكلت إليه العناصر الثلاثة للتحالف مهمة العمل العسكري المباشر، بهدف تنفيذ المشروع التدميري. وتتمثل هذه الكتلة في قوات الدعم السريع التي قامت – لهذا الغرض المشؤوم- بحشد وتدريب وتسليح وتمويل مئات الآلاف من المنتمين إلى حاضنات قبلية معروفة، ينحدر أغلبهم من عرب دارفور وامتداداتهم في تشاد وليبيا والنيجر ومالي وأفريقيا الوسطى والكاميرون.. مستغلة حالة الفوضى والغيبوبة التي رافقت تشكيل حكومة "قحت"، وبتواطؤ معها تم منح الجنسية السودانية زورًا لمئات الآلاف من مواطني دول الساحل الأفريقي، لكي ينخرطوا كمرتزقة في صفوف الدعم السريع.
كما تم تعزيز هذا الحشد العسكري الهائل بمقاتلين مرتزقة من جنوب السودان – خاصة في سلاح المدفعية الثقيلة – وقناصين مرتزقة من إثيوبيا واليمن وسوريا.. وغيرها من الدول.
وتعززت أيضًا قوات الدعم السريع بإمبراطورية مالية ضخمة تجاوزت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات، تم إيداعها في بنوك بدول أجنبية، إضافة إلى سيطرتها على البنك المركزي السوداني، ومعظم مفاصل الدولة. وقد حدث كل هذا على مرأى ومسمع من الجميع دون أن ينبس القادة العسكريون حينها ببنت شفة!
هذه الكتل الأربع المذكورة تعمل بتناغم وانتظام ضمن حلف واحد، يهدف إلى تحقيق غاياته الخبيثة.. وكل كتلة من هذه الكتل تضطلع بمهام محددة من أجل بلوغ هذه الغاية الاستراتيجية المرسومة.
دعم جماهيري
تتولى الكتلة الأولى مهمة التخطيط المحكم، والتنظيم الدقيق، والتنسيق الفعال، والتمويل السخي، وإدارة مسارات الحركة العسكرية والسياسية والدبلوماسية على كافة المستويات، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي أو الدولي.
لذلك لا يجوز لمن يمتلك بصيرة نافذة أن يظن للحظة واحدة أن هذه الكتل الأربع منفصلة أو متباعدة الأهداف.. بل هي دعائم علائقية متينة، متعاضدة ومتساندة لحلف واحد.. تضطلع كل كتلة من هذه الكتل بمهام محددة تتناسب مع طبيعتها، ولكنها تصب في مسار واحد ينتهي بتقسيم البلاد وتفتيتها.
وبناء على هذه الحقائق الجلية، يثور سؤال هام: ما هي الطريقة المثلى لتشكيل هيئات مدنية تتولى إدارة الدولة، ودعم المجهود الحربي- بتكامل وتلاحم مع القوات المسلحة- من أجل إنقاذ البلاد ودحر العدوان بجميع أركانه الأربعة المذكورة؟
في الأشهر الماضية، انتشرت الكثير من الدعوات التي تطالب بتشكيل حكومة تتولى تسيير شؤون الدولة، وإدارة النشاط الحيوي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، مثل الأجهزة والمؤسسات السيادية، والقطاع الاقتصادي، والقطاع الخدمي، والقطاع الأمني وغيرها.
إن الوصول إلى أنسب الطرق لتشكيل منظومة حكومية ذات مواصفات وقدرات تتناسب مع حجم التحديات- وقد فصلت في بيان مكوناته- هو أمر يستلزم أوسع دعم شعبي ممكن، وأعلى نسبة من التمثيل الشعبي المتاح، مع مراعاة ضرورات الواقع. هذه الطريقة تعالج خطر الوقوع في الأخطاء المهلكة التي غالبًا ما تصاحب عملية اختيار الشخصيات السياسية والتنفيذية.
إن معظم هذه الأخطاء ناتج عن تقديرات شخصية لشخص أو لأشخاص شاءت الأقدار أن تكون أسماؤهم موجودة لدى مجموعة صغيرة في قمة القيادة. وما زال أهل البلاد يدفعون ثمن أخطاء البدايات في مثل هذه الطريقة، منذ أن أنتجت غيبوبة الزمن تلك العناصر التي قادت البلاد عام 2019 وما بعده، والتي لا تزال آثارها ماثلة أمامنا لمدى زمني لا نعلم نهايته.
إن الخلل المنهجي الكارثي الذي صاحب اختيار قيادات تلك المرحلة كان هو الشرارة التي أشعلت الأحداث التي تمر بها البلاد حاليًا، فمنذ اليوم الأول لتولي حمدوك رئاسة الحكومة، ظهر نفوذ الكتلتين: الأولى والثالثة المذكورتين أعلاه.
وبدأ بشكل تدريجي فقدان البلاد لسيادتها، واختطاف مصيرها، وتسلط سفراء الكتلة الأولى من مكونات الحلف، وسيطرتهم الكاملة على رئاسة الحكومة، ليس فقط من خلال التمويل والرقابة والإشراف، ولكن أيضًا من خلال صناعة السياسات الداخلية والخارجية، بل والسعي الدؤوب والنشط لوضع البلاد بأكملها تحت الانتداب الدولي، والنتيجة هي أن اختيار حكومة تلك الفترة كان نقطة الانكسار العظمى في تاريخ الدولة السودانية.
كان هذا نتيجة حتمية للخلل المنهجي في اختيار القيادات، وحصر عملية الاختيار بين كيانات صغيرة أو أفراد متنفذين خلف أبواب مغلقة، مشحونة دواخلهم بمحتوى مرهون لإرادة الأجنبي.
نظام الشورى
إن المنهج الأنسب الذي يراه الكثيرون هو التمثيل القاعدي الواسع بأعلى قدر ممكن، خاصة في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد. واستبدال فكرة القائد الأوحد المتفرد، أو النخبة القليلة- مهما كانت نزاهتهم مشهورة ومذكورة- بفكرة نظام شورى واسع القاعدة، يضع أسسًا موضوعية ومعيارية لاختيار القادة التنفيذيين، ودعمهم عندما يسيرون على الطريق الصحيح وفقًا للبرامج المتفق عليها التي تحكم أداءهم.. أو محاسبتهم عند الانحراف أو العجز، ومنحهم الخيار بين الاستقامة أو التنحي.
وبناء على ذلك، فإن المنهج الذي يراه الناس الأنسب لوضعنا هو إنشاء مجلس تشريعي - استشاري، يتم انتخاب أعضائه بالتفويض الشعبي المباشر لممثل أو ممثلين عن كل محلية في السودان، بالإضافة إلى ممثلين عن القوات المسلحة، والقوات النظامية الأخرى، بمن فيهم ممثلون عن مبادرات الدعم الشعبي للقوات المسلحة.. ثم يتم تعزيز هذا المجلس بممثلين عن القطاعات الوطنية والفئوية والمهنية المختلفة.
ويُحظر الترشح لعضوية هذا المجلس على كل من ثبتت مشاركته في الحرب ضد الدولة وشعبها، قولاً أو فعلاً، أو من يحمل جنسية مزدوجة؛ للأسباب التي ذكرناها سابقًا.
مهام المجلس الاستشاري الانتقالي:
1- اعتماد دستور انتقالي لإدارة الدولة، بما في ذلك تحديد مدة المرحلة الانتقالية ومهامها. ولعل الأنسب هو اعتماد دستور عام 2005 مع إلغاء أو تعديل المواد التي تشير إلى القضايا التي تجاوزها الزمن، والتي لم تعد تتناسب مع المتطلبات الموضوعية الراهنة.
2- إقرار قيادة القوات المسلحة للمرحلة الانتقالية، بما في ذلك اعتماد القائد العام رئيسًا لمجلس السيادة الانتقالي.
3- وضع وإجازة المعايير الموضوعية والشروط المؤهلة اللازم توافرها في رئيس الوزراء وحكومته، وجميع من يشغلون المواقع الدستورية، والتأكد أولاً من وضوح الرؤية تجاه السياسات الموجهة للبلاد في منعطفها الحالي، مع الرؤية المهنية المتخصصة لدى كل من يتولى موقعًا قياديًا، بمن فيهم رئيس الوزراء.
الرؤية القيادية تتطلب استيعابًا كاملاً، بدون تضليل أو تردد، للأهداف والوسائل التي تتبعها الكتل المكونة للحلف المتورط في العدوان على السودان.
ثم التأكد ثانيًا من توافر رؤية برامجية واضحة تجاه جهاز الرئاسة، وتجاه كل حقيبة وزارية.. رؤية علمية موجهة، قابلة للتحول إلى خطة، ثم للتحول من خطة إلى برنامج عمل تنفيذي يومي.
وليتذكر الجميع هنا كيف اكتشف الناس أن رئيس حكومة قحت – الذي أشيع عنه قبل توليه المنصب جاهزيته للأداء السياسي والتنفيذي برؤية وخطه نهضوية علمية – قال بعد شهور: إنه خالي الوفاض من أي خطة، وأن أحدًا ممن جاؤوا به للرئاسة لم يسلمه رؤية أو خطة. حتى أدرك الناس جميعًا أن من جاؤوا به لم يهتموا أصلاً ببرنامج قد يحدث قدرًا موجبًا في حياة السودانيين.
الكتلة الرئيسة الأولى للحلف المذكور كانت هي صاحبة الرؤية والخطة. ورأينا كيف تولت أصالة بنفسها أو من خلال حلفائها في الكتلة الثالثة قيادة البلاد، بما في ذلك قيادة رئيس الوزراء نفسه.
الأمن والاقتصاد
4- في صدارة مهام المجلس الاستشاري يأتي اعتماد أعضاء المحكمة العليا والمحكمة الدستورية، أو دمج المحكمتين في منظومة قضائية واحدة.
السلطة القضائية، والنيابة العامة، والقوات المسلحة، ومؤسسات إنفاذ القانون، هي الهيئات السيادية الوازنة والضامنة للممارسة المسؤولة، وهي المتحكمة بمعايير حوكمة الممارسة السياسية، ويجب تدخلها لتصحيح المسار كلما ظهرت الفوضى وساد الاضطراب؛ كما حدث في البلاد ووصل بها إلى وضعها الحالي المؤسف.
5- على الرغم من ازدحام القضايا المطروحة على جدول أعمال هذا المجلس الاستشاري، إلا أن هناك بندين لا يمكن تأجيلهما، ومن المتوقع أن يتصدرا الأولويات القصوى: الأول هو الأمن ومتطلباته الملحة واحتياجاته اللوجستية.
والثاني هو اعتماد منهج الاقتصاد الاجتماعي التضامني، الذي يحتل مكانة متنامية في عالم اليوم. وقد فرضت الظروف الطارئة إعادة تشكيل الحركة الاقتصادية من خلال اعتماد قطاع اقتصادي ثالث يتوسط القطاع العام والقطاع الخاص، وهو القطاع المجتمعي التضامني الذي يهدف إلى دمج أكثر من عشرين مليون سوداني في دورة الاقتصاد الكلي.
فمن المعلوم أن أكبر تداعيات الحرب هو التدمير الشامل للبنية التحتية، والأنظمة الحاكمة لحركة الاقتصاد ورؤوس الأموال. كما أن الدولة لم تعد قادرة على توفير الوظائف ودفع الرواتب؛ لذلك يتجه الفكر الاقتصادي إلى تأسيس هذا النهج الاقتصادي القائم على المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
وفي عجالة كهذه، يجب أن أقول إن هذا المنهج الاقتصادي لم يتم تأسيسه بناءً على فكرة عابرة أو متسرعة، بل هو تصميم "مُسَودَن" لخلاصة عشرات التجارب في العديد من الدول. ويقيني ثابت بأنه الخيار العلمي والعملي الأكثر جدوى لإنقاذ ملايين الشباب التائهين اليوم والذين يعانون من اليأس والإحباط.
غير أن نجاح هذا النهج يتطلب توافر شروط مؤسسية أربعة، يجب أن تتوافر لضمان نجاحه، وبدونها سيكون مصيره الفشل. أولها: شروط مفاهيمية وعلمية. وثانيها: شروط سياسية وتشريعية وإدارية. وثالثها: شروط مالية. ورابعها: ما أسميه شرط المؤسسات الرديفة المساندة.. وكل ما ذكرته يحتاج إلى تفصيل دقيق لجزئياته، وهو قابل للتنفيذ مع وجود جهاز تنفيذي وتشريعي في البلاد لا يعرف التكاسل ولا تقيده قيود الأنانية.
6- يضطلع المجلس بكل مهام المجالس البرلمانية في العالم، وخاصة مهمة الرقابة على الجهاز التنفيذي من خلال اللجان البرلمانية المتخصصة، وصناعة النظم والقوانين الضابطة لجميع مناحي الحياة في السودان.
7- ولمواجهة واجبات صد العدوان -الأكثر إلحاحًا- على اختلاف أنواعها، فإن مهام التعبئة الشاملة وحشد جميع موارد الدولة: المادية والبشرية، والصلبة والناعمة، والعسكرية والمدنية، يجب أن تتصدر أعمال المجلس كافة، وتستوعب جميع أعضائه.
مسؤوليات ضرورية
8- هناك ثلاث ركائز للحوكمة الفعالة، وهي جوهر وعقل هذه المؤسسات الضامنة والموازنة: الحفاظ على وجود الدولة نفسها، وسيادة القانون المنظم للممارسة السياسية، والرقابة الدقيقة للممارسة حتى لا تنحدر إلى مسار الانحراف.
9- إن أهم المتطلبات التي ينبغي توافرها في عضوية هذا المجلس التشريعي - الاستشاري هو التحرر من قيود الولاءات والرغبات الجزئية.. فواجبات النصر لا تقبل ازدواجية الولاء.. وإن ما ترسخ من مضامين يقينية إيمانية لدى الجيش السوداني منذ تأسيسه كاف لتمثيله في حربه الحالية.
أردت بهذه المساهمة أن أطرح منهجًا موضوعيًا لمغالبة سياسية ذات عمق اجتماعي قاعدي كثيف، يمثل ركائز الدعم التضامني الصلب للجيش السوداني وشعبه، وهما منخرطان في حرب حماية الوطن ودفع العدوان. وإذ أقول ذلك أدرك يقينًا أن أنسب النظم السياسية وأصلحها دائمًا هي تلك التي تنشأ بإرادة الشعوب، لتلبية متطلباتها الوطنية، انطلاقًا من قواعدها الراسخة، متجاوزة التسلط الفوقي لنخب أثبتت تجارب الماضي القريب سهولة وسرعة استعدادها لرهن البلاد للأجنبي.
فتحقيق الإرادة الوطنية يتجسد في تحويل التنافس الشريف من مستنقعات التسلط الفوقي والأجنبي إلى منطلقات العمل الوطني القاعدي، ولتأسيس إدارة حكومية تقوم على التعاقد البرامجي اللازم تنفيذه بين الطرفين المتعاقدين: الرئيس أو الوزير (طرف)، والشعب عبر برلمانه (طرف ثانٍ).
وعليه، فإن المشاركة السياسية تتحول من حق اختياري للجميع بمقتضى حق المواطنة، إلى واجب ملزم في ذمة كل فرد سوداني يمليه الظرف الاستثنائي الراهن. فالإحجام عن المشاركة اليوم ليس مجرد استسلام للسلبية واللامبالاة، ولكنه أيضًا يجعل صاحبه كأنه قبر متحرك. ومن أجل نقل المشاركة من خانة الحق الذي يمكن تجاوزه إلى واجب يجب أداؤه، تفرض دول عدة عقوبات جزائية على من يتقاعس عن المشاركة في الاقتراع العام حول القضايا الوطنية المصيرية.
الأمريكيون والأوروبيون لا يعرفون من الممارسة الديمقراطية سوى ما اعتادوا عليه، ويرغبون في فرضه قسرًا على مجتمعات لا يتناسب واقعها الثقافي والعقدي مع المضامين التي يسعون إلى تحقيقها. وعلى الرغم من ذلك، يدعون أن النظام السياسي يمكن تعليبه وتغليفه وشحنه وتوزيعه عن طريق وكالاتهم السياسية، ولا يرون فرقًا أو حرجًا معنويًا بين الوكالة السياسية وبين الوكالة التجارية المحكومة بعروض التجارة ومواثيقها المنظمة لها.
وبفعل هذه العلاقات العِمالتيّة المتراكمة، ترسخت لدى وكلائهم فكرة أن الممارسة السياسية ليست سوى مصدر لجمع الأموال، تمامًا كما هو الحال في الوكالة التجارية. لذلك كان الحرص الشديد على استدامة علاقات الوكالة "الزبائنية" بين الكتل الأربع التي تتآزر اليوم في حربها على السودان.
الخير أردت.. ولكل امرئ ما نوى.. وعلى الله قصد السبيل، ومنها جائر.